ناجي عباس يكتب .. مابعد ميونخ 2
بوابة البرلمانبالأمس - مررت مروراً سريعاً على الخلافات الأمريكية الأوروبية، مع توجيه الضوء بشكل خافت على الخلافات الأمريكية مع كل من المانيا وفرنسا، وأشرت الى انها قديمة، واستطاع „ الحلفاء داخل الناتو اخفائها لفترات طويلة لأسباب لها علاقة بالخلافات الأكبر من الاتحاد السوفييتي في فترة الحرب الباردة، وما بعدها مع العدو التقليدي روسيا - علاوة على ان الظروف „ الوطنية“ يفي كل بلد على حدة - لم تكن لتسمح بفتح هذا الملف - وما كان سياسي فرد في اوروبا بقادر وحده على التنويه لذلك - لكن الأمر تغير بنشوء ونمو الاتحاد الأوروبي من جانب وضعف الولايات المتحدة من جانب آخر .
-
واليوم اتصور ان استكمال ما بدأته بالأمس يستوجب الدخول - قدر المستطاع والممكن - في تفاصيل الخلافات الأمريكية الأوروبية - التي لم تكن سياسية فقط - بل تشابكت فيها الأسباب السياسية مع الاقتصادية والعلمية البحثية والأمنية - بشكل كبير - حتى لو انعكس مظهر تلك الخلافات الخارجي - فيما يجري الكشف عنه من خلافات وكأنه سياسي فقط .
وعلى كل - فقد اعتاد طرفا الخلاف حفاظاً على المصالح والروابط السياسية والدفاعية „ معالجة“ هذا الملف في كتمان - لكن السرية الكاملة في مثل تلك الملفات مستحيلة - وذلك اما لتعمد أحد الطرفين في لحظة ما الكشف عما يجري تخفيفاً للضغط أو هرباً من الابتزاز.. واما لنفاذ صبر أحد الملمين أو العاملين بتماس كامل مع هذا الملف - حرصاً على المصالح الوطنية أو غيرها
الغرف المغلقة وحوارات المتخصصين وغيرهم في ميونيخ تناولت بعض تفاصيل “ جبل „ الخلافات الالمانية الامريكية - والأمريكية الفرنسية..في محاولة للتعرف على الصورة من قر، وربما رغبة في ايجاد مخرج يضمن عدم تنامي تلك الخلافات في المدى المنظور أكثر من ذلك.
سأحاول هنا البدء بايضاح „ بعض“ الخلافات الأمنية لأمريكية الالمانية لانها أكبر وأوضح مما يتصور كثيرون، وبلغت حداً لم يعد من الممكن السكوت عليه - على ان أعود للخلافات الأمنية الفرنسية بعد الانتهاء من „ الملفات السوداء للعلاقات الألمانية الأمريكية، - مع محاولة الاختصار قدر الامكان ..لكن قبل ذلك يتطلب الأمر العروج على التاريخ
...
تاريخياً - كانت العلاقات الأمنية الأمريكية مع دول اوروبا دائماً شائكة - وخاصة مع المانيا، فمنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والأجهزة الامنية الأمريكية تقوم بعمليات تجسس بشتى الصور وفي كل المناحي على المانيا، واستمر الامر فترة طويلة نسبياً - تحت بصر وسمع الاجهزة الالمانية احياناً- مع عجز كامل عن القيام برد فعل - رغم الاستطاعة - بسبب عدم وجود قرار سياسي بهذا الخصوص، فألمانيا بعد الحرب كانت ضعيفة، وفي حاجة لاعادة الثقة فيها، ولو على حساب الكثير من الثوابت الوطنية..وهذا ما يبرر التعامي عما كانت تفعله الأجهزة الأمنية الأمريكية من عمليات تجسس سياسي وسرقات علمية واقتصادية بشكل كبير
هذا الأمر تغير في الثمانينات..ففي الأول من أغسطس 1985- أي في ذروة الحرب الباردة والتحالف بين الولايات المتحدة والمانيا الغربية آنذاك - قبل الوحدة الالمانية بأكثر قليلاً من اربع سنوات كشف الالماني الراحل هربرت هيلينبروش رئيس المخابرات الداخلية الالمانية وقتها عملية تجسس امريكية علمية - عسكرية كبيرة على المانيا، وفجأة صدر قرار بانتقاله من المخابرات الداخلية الى رئاسة المخابرات الخارجية ، وقبل ان يفيق من انتقاله - هرب هانز يوآخيم تيدجه الذي كان أحد مساعدية السابقين وكان رئيساً لقسم مكافحة التجسس الاجنبي ابان رئاسة هيلنبروش للمخابرات الداخلية -هرب الى المانيا الشرقية - فطُلب من الالماني رئيس المخابرات الجديد هربرت هيلينبرويش - الذي كان على وشك كشف عمليات التجسس الأمريكي على المانيا - تحمل المسؤولية وتقديم استقالته على الفور - وبعد سنوات كُشف النقاب عن ان „ الهارب لألمانيا الشرقية هذا كان يعمل لحساب الولايات المتحدة داخل المانيا الغربية - وكٌُلف بالهرب الى المانيا الشرقية ليضطر رئيسه - رئيس المخابرات الذي اكتشف التجسس الأمريكي للاستقالة ويظل الملف مغلقاً.
هذا من التاريخ. فماذا عن عمليات التجسس الامريكية على المانيا في الوقت الحالي؟
بحسب الخبراء في مؤتمر ميونيخ - وحواراتهم في الغرف المغلقة -استمرت وتشعبت عمليات التجسس الأمريكية على المانيا - على الأراضي الالمانية، وعبر التقنيات المتقدمة خارج الأراضي الألمانية ايضاًَ - ما أدى الى تعميق الخلافات بين البلدين أكثر من قبل - بل ان تلك العمليات وصلت الى مستوى لا يمكن ولا يستطيع أحد في المانيا التستر عليه
الالمان يرفضون ببساطة المنطق الأمريكي القائل ان „ التجسس“ بين الاصدقاء أمر طبيعي ولا يشوبه شائبة، ويمكن غض الطرف عنه „ فالمصلحة واحدة“ ..هذا هو منطق الأمريكييين الذي يرفضه الألمان.