محمد فؤاد يكتب : تأملات في حديث الأسبوع الأخير
بوابة البرلمانحالة من النقاش الجدلي التي وصلت احيانا إلى حد التطرف، انتشرت بشكل كبير في الأسبوع الأخير، فتارة يدور الحديث عن المقاول الهارب ومنه دخلنا على القصور الرئاسية. و للأمانة، أنني واجهت مشكلة في التعاطي مع هذه الحالة في ظل أنها غير منطقية خاصة عند ربطها بالقواعد والأطر الحالية، وهو الأمر الذي سوف أحاول شرحه في السطور القليلة التالية.
و بما ان الظرف الحالي لا يخلو بالطبع من تربص و مشاحنات، فلن أتطرق في معرض حديثي إلى النوايا و المقاصد أو الشخوص بل سأسعى لتحليل موضوعي للمحتوى.
في البداية، يجب التسليم، بأن هناك قواعد تحكم كل التعاملات التي يقوم بها أي مسئول في مصر، وبصرف النظر عن فكرة السائدة عن الكوسة أو الفساد، فدولتنا بها مؤسسات عتيدة وبيروقراطية، تهتم جيدا بتقنين كل شيء حتى إذا بدى الأمر كأنه تقنين شكلي فقط.
فعلى سبيل المثال، عند الحديث ضمن الجدل حول القصور الرئاسية، فيجب أن يكون منطلق الحديث أو حتى التقييم قائما بشكل أساسي على قانونيته وليس بالضرورة مدة ملامسته للمنطق، وذلك حيث أن المنطقية خاضعة للمزاج العام وتقبل الاختلاف حسب الأهواء والتوجهات، إنما الأمور القانونية فهي محكومة بالتشريعات واللوائح والدستور، والحكم فيها لا يقبل التأويل.
وتحديدا في هذه المسألة –بما أنها استقطعت جانبا ليس بهين من اهتمام المصريين سواء على منصات التواصل الاجتماعي أو حتى الحديث المباشر-، فهي غالبا ما تكون مدرجة في مجموعة الأصول الثابتة من الباب السادس من الموازنة العامة المعتمدة من البرلمان والمعلنة كذلك، أو ضمن موازنة الهيئات التي تكون موازنتها رقم واحد –غير مطروحة للمناقشة ولكن للمراجعة بعد التطبيق- كالرئاسة والقوات المسلحة.
هذه الموازنة بعد اعتمادها من قبل البرلمان بكامل بنودها، لا تكون الحكومة حرة في مخالفتها، وذلك حيث أن البرلمان له الحق في الرقابة على تنفيذها من خلال الحسابات الختامية التي يقوم بها الجهاز المركزي للمحاسبات، وأيضا الاطلاع على بيانات موثقة بالصرف خارج بنودها والأسباب التي دفعت إلى ذلك، فالأمر يكون معلن وواضح إما قبل تطبيق الموازنة أو في الحساب الختامي، كما أنه من حق المجلس إذا وجد أي مخالفات جسيمة أو إهدار في المال العام، أن يحيل المسئولين عن ذلك إلى النيابة العامة للتحقيق. وذلك على سند من أن الموازنة العامة للدولة تصدر بقانون ومخالفتها هي مخالفة قانون.
ومن هذا المنطلق، تقدمت في شهر يوليو الماضي، بسؤال موجه لرئيس مجلس الوزراء ووزيري التخطيط والإسكان، بخصوص مقر مجلس الوزراء في مدينة العلمين الجديدة، لأني أحسبه غير واضح في الموازنة من أصله وجدواه محدودة أيضا، وطلبت إيضاح الأسانيد التي اعتمدت عليها الحكومة في إنشاء هذا المبنى ودراسة الجدوى الخاصة به، وسيكون لهذا الأمر تبعات مع عودة جلسات المجلس ومراجعة الحساب الختامي للعام المالي الحالي.
وبالعودة إلى قصة القصور الرئاسية، والتساؤلات الكثيرة عن دور البرلمان فيها، على أساس أن البعض اعتبرها غير مناسبة مع الظرف الاقتصادي، فهنا وجب الإيضاح بأن رئيس الجمهورية منتخب ولا يخضع لرقابة مباشرة من البرلمان إلا من خلال المادة ١٦١ من الدستور، التي تجيز لمجلس النواب اقتراح سحب الثقة من رئيس الجمهورية، لكن لا يوجد أدوات رقابية يمكن توجيهها له، على العكس مما هو متاح لوزراء الحكومة ورئيسها.
أمر آخر وهو أن السلطات والصلاحيات التي حملها الدستور للرئيس تجوز له التوجيه بذلك دون محاسبة طالما لا تمثل مخالفة قانونية أو إهدارا للمال العام –وهو أمر مفروغ منه طبقا لما وضحته سابقا-، ولحل هذه الإشكالية فهناك اختراع اسمه صندوق الانتخابات، أظن أنه لا بديل عنه حال اختلاف وجهات النظر في جدواها لكن لا مجال للحساب اليومي في الدستور أو القانون أو الواقع التطبيقي.
فقبل كل شيء يجب أن نكون على علم بما يمثل مخالفة قانونية أو فساد، وما هو أمرا يخضع للمواقف الشخصية والمنطق، حتى نعلم مصير هذا الاهتمام الكبير من وقتنا على الأقل، فالمخالفة تخضع لتفسير النص القانوني وعلاجه رقابة ومساءلة، أما المنطقي فيخضع للاختيار الشعبي.
وبالمناسبة، فجميع الأطراف أظنها مشتركة في الخطأ، حيث أن النقاشات الدائرة اتسمت بالعاطفية أكثر من العقلانية، وهذا الخطاب العاطفي هو الذي سحبنا من الواقع وأدخلنا في دائرة الجدل غير المعلومة ضرورتها، حتى أن الرئيس نفسه تحدث بخطاب "العشم" بينما أن القانون أصلا أجاز كثير من الأمور محل الجدل.
وفي الختام، فإن التعامل مع الأمور من خلال قنوات وقوانين أبسط بكثير من إشعالها خلال صراع لا يخرج عن نطاق "الهري".. صحيح هذه القنوات قد يكون اصابها الصدأ أو أن السياق العام محتقن، إلا أن مصر مع ذلك دولة مؤسسات والخطاب العقلاني سيجد صدى ونتيجة لكل خلاف فيها.
مشكلتنا أننا زهدنا السياسة فأصبح البرلمان برطمان ومجلس النواب مجلس النوام وصرنا منسحبين من عملية سياسية منظمة ومشدودين إلى فضاء إلكتروني وحديث القاعات أو المقاهي..
يا سادة نحن بحاجة إلى الكثير من السياسة والقليل من التشنج.. الكثير من التدبر و القليل من الهتاف و الفيديوهات.
حفظ الله مصر..