المهندس صلاح الجنيدي يكتب : لولا ستر الله !!


منذ حوالى ثلاثين عامًا، كنتُ أشغل منصب مدير الإدارة الهندسية بمديرية أوقاف دمياط. وكنتُ، كغيري من أبناء هذه المحافظة الوادعة، أعلم يقينًا أن "مسجد البحر" ليس مجرد مبنًى ولا جامعًا كباقي الجوامع...
بل كان هو قلب دمياط النابض بالإيمان، مسجدها الرئيسي، ورمزها الروحي، ومسرحًا لخطَبٍ تبعث الروح، وتوقظ القلوب.
وكان فارس هذا المنبر هو الشيخ محمد البواب. عالمٌ جليلٌ، كفيف البصر، نيّر البصيرة، تهتز له القلوب وتدمع له العيون من بلاغته وتأثيره. كنتُ أُجِلّه، أقدّره، و كانت الجمعة موعدًا لا يُفوّتى كي أستمع لخطبته.
وذات يوم... زارني الشيخ في مكتبي.
كان يمسك ورقة، يرافقه شاب يرشده.
قال بصوته الوقور:
"يا باشمهندس... القُبّة الرئيسية في مسجد البحر بها شروخ... خطيرة... وأنا أخلي مسؤوليتي أمام الله وأمام الناس."
قرأت الورقة، وأصابني شعورٌ كمن سُحبت الأرض من تحت قدميه.
تركت مكتبي فورًا، ونزلت للمعاينة...
وكانت الحقيقة أبلغ من كل وصف.
نعم، القبة كانت آيلة للسقوط.
شروخها تتسع كأنها وحشٍ يتربص بأرواحٍ طاهرة.
كل شيء فيها كان بنطق بل يصرخ بالخطر...
كل دقيقة كانت كأنها الأخيرة!
في تلك اللحظة، لم أتردد.
كتبت في دفتر المسجد قرارًا عاجلًا:
إغلاق المسجد فوريًا... ومنع إقامة الشعائر داخله.
وفي اليوم التالي، زارني الشيخ مرة أخرى، هذه المرة بصوتٍ يحمل رجاءً حارًا، وهمسًا خافتًا:
"رمضان على الأبواب... والمسجد له في قلوب الناس سَكَن... وهناك من الفقراء من ينتظر صدقةً، وإفطارًا، ودعاء..."
قال: "افتح المسجد إن استطعت، ولتُمنع الصلاة فقط أسفل القبة."
تأثرت. قلبي استجاب قبل قلمي.
كتبت تأشيرة جديدة، وقررت فتح المسجد...
لكنني لم أتهاون.
اشتريت بنفسي حبالًا قوية، وربطتها حول أعمدة القبة، كحزام أمانٍ للروح قبل الجسد، ليمنع أي مصلٍّ من الجلوس أسفلها.
وكتبت بخطي في دفتر المسجد: "يُمنع مكوث المصلين أسفل القبة."
فصححها لي الشيخ بأدب العلماء:
"قل: يُمنع مكث المصلين... فالصواب مكث، لا مكوث."
و فى اليوم التالى كان رمضان.
كان رمضان في مسجد البحر كأنه موسم سماوي نزل على الأرض.
الصلوات، التراويح، القيام، التهجد، الدعاء...
الليالي تمتلئ بالناس،
والشوارع المحيطة بالمسجد ضاقت من الزحام...
قلوب تخشع، ودموع تُسكب، وأصوات ترتفع إلى السماء.
دخلت المسجد يومًا فشهقت من الرعب...
كل الحبال أُزيلت، كأنها لم تكن!
الناس صلّوا وتراصّوا تحت القبة تمامًا...
والشيخ البواب يجلجل بصوته، كأنه يُغطي المدينة كلها بتكبيره.
حاولت... توسلت... رجوت الناس ألا يجلسوا تحت القبة،
لكن هيهات...
شوق الناس إلى ربهم غلب خوفي عليهم.
وكان الخوف لا يفارقني...
أنام به وأصحو عليه،
أنظر إلى القبة كمن يرى سيفًا معلقًا فوق الرقاب.
ومرّ رمضان يومًا بيوم، وليلةً بليلة...
وفي كل لحظة كنتُ كمن يحمل قلبه على كفّه، لا يدري هل سينقضي الشهر بسلام، أم ستنقلب السكينة إلى فاجعة؟
وجاء العيد.
وصلى الناس صلاة العيد وانصرفوا...
و راح العامل يغلق أبواب المسجد...
وفي اللحظة التي كان العامل يغلق فيها أخر باب ،،
وقع ما لم يتصوره عقل!!!!
دوّى صوت انفجارٍ رهيب!!
كأن زلزالًا ضرب قلب دمياط...
ارتجّت الأرض، كأنها تُنذر بقيامة صغرى.
جريتُ كمن انتُزع قلبه من بين ضلوعه...
لقد كانت القبة قد انهارت بالكامل.
انهارت بعد آخر ركعة...
بعد آخر آمين...
بعد أن ودّعت الأرواح خشوعها.
سقطت في صحن المسجد، وخلّفت خفرة عظيمة، كأنها قبرٌ مفتوحٌ ينتظر ساكنه.
وقفت مذهولًا...
أتخيل لو أنها سقطت قبل دقائق فقط...
لو أن حبة زلط واحدة نزلت على رأس طفلٍ ساجد...
لكان الدم قد غطّى ساحة النور.
لكان المشهد لا يُنسى... ولا يُغتفر.
لكانت مجزرة بلا مثيل...
لكانت نهاية حياتي ومسيرتي... بل ومأساة لوطنٍ كامل.
لكن الله...
سترنا.
نعم، لقد سترنا الله بجميل ستره،
وأمهلنا، وأنقذ أرواحًا، ونجّانا من بلاء كان فوق طاقة البشر.
ومن يومها وأنا لا أنسى...
أن هناك لحظات في عمر الإنسان،
لا يُنقذه منها عقلٌ ولا علمٌ ولا حيلة...
بل فقط: رحمة الله.
لكننى تعلمت :
أن الرحمة الحقيقية أحيانًا، تكون في الحزم وأن الواجب لا يعرف المجاملة، مهما عظُمت المحبة أو اشتدت التوسلات.
وتعلمت أيضًا… أنني ما حييت، لن أترك الأمور للقدر حين أراها تتجه للخطر.
فالله وكّلنا لنحكم عقولنا، لا لنُرضي مشاعرنا.
ومنذ تلك اللحظة... لم أُجامل في مسؤولية، ولم أتردد في قرارٍ يخص حياة الناس.
لأنني ذقت طعم الرعب…
.. و إن كنت قد ذقت بعده معنى الستر الإلهي.
كاتب المقال الاستشاري المعروف ورئيس هيئة الاوقاف السابق